وانتصف شهر رمضان كما سنقدم انتصف رمضان يا دمعة المتهجد وايضا خطبة وانتصف رمضان كما نقدم ايضا خطبة انتصف رمضان والناس على أحوالهم كل ذلك اليكم في هذا المقال.
محتويات المقال
وانتصف شهر رمضان
شهرُ رمضان المبارك شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، في هذا الشهر تُقبِل نفوس المؤمنين على الطاعة، وترقُّ قلوبهم للموعظة، وشُرِعَت فيه صلاة التراويح ليسمع المؤمنون آيات كتاب الله فيه، ولسماع القرآن فيها تأثير كبير على النفس يختلف عن غيرها، خصوصاً إذا كانت التلاوة بصوت جميل متأثرٍ بما يتلوه فيها.
وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: لِكثرة قراءة القرآن في رمضان مَزِيَّةٌ خاصَّة، وكان جبريل يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيداً وتثبيتاً.
وكان السلف الصالح -رضي الله عنهم- يُكْثِرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، وكان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان مالك -رحمه الله- إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس، العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف. اهـ.
أيها الأحبة: وشهر رمضان فرصة سانحة للَّحاق بركب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأبرار، الذين كان لهم من عبادة الله وخشيته والإنابة إليه أوفر الحظ والنصيب؛ وتبرز هذه الخشية في بكائهم من خشية الله، وهو أفضل البكاء وأصدقه، وأقوى دليل على القلوب الوجلة الخائفة. قال الله -تعالى- مثنياً على الباكين من خشيته: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:109].
وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). [المائدة:83]، إلى أن قال: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:85].
وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمتصفين بالبكاء من خشية الله أعظم المنازل، ورتب لهم به أوفر الأجور، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قالَ: قال رسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ”، وذكر منهم: “ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” رواه البخاري ومسلم.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ” رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ” رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: “أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ” رواه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الأحبة: إذا كان هذا فضل البكاء من خشية الله، فما حال سلفنا الصالح وإياه؟ لقد كان لهم في هذا الشأن القدح المعلى، وقصب السبق، ولهم فيه جميل الذكر، وحميدُ السمعة، ومقامهم يُشَيَّعُ بالحمد، ويُذَيَّلُ بالثناء، يَجْمُلُ في المجالس ذِكْرُه، ويَطيبُ في المحافلِ نشره، ويخلَّدُ في الصحائف حمده.
وسأذكر في عجالة من شأنهم شأناً، ومن فضلهم فضلاً، فخير مَن تعبد لله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عنه عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه-: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ”. قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: “إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي”، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا). قَالَ: “حَسْبُكَ الآنَ!” فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ” رواه البخاري ومسلم.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يبكي في صلاة الليل، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: “أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ من البكاء”. المرجل: القِدر الذي يغلي فيه الماء. رواه الترمذي في مختصر الشمائل، والبيهقي، وصححه الألباني.
وعن عبيد بن عمير -رضي الله عنه- أنه قال لعائشة -رضي الله عنها-: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فسكتَت، ثم قالت: لما كان ليلةٌ من الليالي قال: “يا عائشة، ذريني أتعبدُ الليلةَ لربي”، قلتُ: والله إني أحبُّ قربَك، وأحبُّ ما يسُرُّك! قالت: فقام فتطهرَ، ثم قام يصلي.
قالت: فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجْرَهُ. قالت: وكان جالساً فلم يزلْ يَبْكي -صلى الله عليه وسلم- حتى بَلَّ لِحْيَتًهُ. قالت: ثم بكى حتى بل الأرض.
فجاءَ بلالٌ يُؤْذِنُهُ بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي؟ وقد غفرَ اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: “أفلا أكونُ عبداً شَكورا؟ لقد نزلت عليَّ الليلَةَ آيةٌ، ويلٌ لمَنْ قرأَها ولم يتفكر فيها! (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190] رواه ابن حبان، وحسنه الألباني.
وكان بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- من جنس ضحكه، فلم يكن بشهيقٍ ورفعِ صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، فقد كانت عيناه تدمعان حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز.
أيها الإخوة: أما أصحابه -رضوان الله عليهم-: فيحدثنا عنهم أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- فيقُولَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ؛ فَخَطَبَ فَقَالَ: “عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرّ،ِ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا!”.
قَالَ: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. رواه مسلم. والخنين صوت البكاء.
وعن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رضي الله عنه- قال: “قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني.
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: “مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ”. قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ؛ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ. رواه البخاري. أسيف: من الأسف، وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب، سريع البكاء.
وعَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنهمَا- أَنَّهُ: ابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَتَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ويَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-، فَاسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَعَسَلٌ فَأَدْنَاهُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ نَحَّاهُ وَبَكَى حَتَّى بَكَى أَصْحَابُهُ فَسَكَتُوا وَمَا سَكَتَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟.
قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَأَيْتُهُ يَدْفَعُ عَنْهُ شَيْئًا لَمْ أُبْصِرْ أَحَدًا مَعَهُ، وهوَ يَقُولُ بِيَدِهِ: إِلَيْكِ عَنْيِ! إِلَيْكِ عَنْيِ! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الَّذِي تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ وَلَا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا؟ قَالَ: “هَذِهِ الدُّنْيَا تَمَثَّلَتْ لِي، وَحَنَتْ ظَهْرَهَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَيْكِ عَنِّي! فَقَالَتْ: أَمَا وَاللهِ لَئِنْ نَجَوْتَ مِنِّي لَا يَنْجُو مِنِّي مَنْ بَعْدَكَ”، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَخَشِيتُ أَنْ تَلْحَقَنِي، هَذَا الَّذِي أَبْكَانِي” رواه البيهقي بالشعب، والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وصلى عمر بالناس يوماً صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأ، حتى إذا بلغ: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84] بكى حتى انقطع فركع.
وعن عَبْد اللهِ بْن شَدَّادِ قال: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَأُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ قَالَ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف:86] رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وهذا عمر بن الخطاب كان في وجهه خطان أسودان من البكاء؛ وكان عثمان -رضي الله عنه- إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته. وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه؛ فما بعده أشد منه”.
وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما رأيتُ منظراً قط إلاّ والقبر أفظع منه” حسن هذه الألفاظ الألباني.
وهذا علي بن أبي طالب: لما رأى الناس في آخر حياته انصرفوا إلى الدنيا صلى الفجر وجلس حزيناً مطرقاً؛ فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وبدأ يبكى؛ ويذكر أصحاب رسول الله وعبادتهم. وما رُئِي بعدها مبتسما حتى لحق بربه.
أيها الأحبة: ما الطريق إلى رقة القلب؟ ذكر أهل العلم طرقاً كثيرة، أذكر منها: قراءة القرآن بتدبر، قراءة يتواطأ فيها القلب مع اللسان، مع اختيار الوقت المناسب، والمكان المناسب؛ وهذا له أعظم الأثر في جلب البكاء من خشية الله.
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: “البكاء مستحب مع قراءة القرآن وعندها، وطريقة تحصيله أن يحضر قلبه بأن يتأملَ ما فيه من التهديدِ والوعيدِ الشديدِ، والمواثيقِ والعهودِ، ثم يتأملَ تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزنٌ وبكاءٌ كما يحضر أرباب القلوب الصافية فلْيَبْكِ على فَقْدِه، فإن ذلك أعظم المصائب!”.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم…
انتصف رمضان يا دمعة المتهجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
إن أصدق الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، هذا هو شهر رمضان قد تجاوز البدايات، وصار في المنتصف، وهو يسير حتمًا إلى النهايات.
فماذا وجدنا فيه؟ وماذا وجدنا من أنفسنا بعد هذه الأيام، ما لم نجده في غيره من الأيام؟
لقد وجدنا من أنفسنا أننا نستطيع أن نصوم الأيام المتتابعة دون أن يرهقنا الصوم، أو يصيبنا بالتعب والجهد الشديد.
ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نصوم في غير رمضان أيامًا أُخَر؛ كصيام الاثنين والخميس، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيام الأيام البيض أو غيرها من الأيام، فلماذا نحرم أنفسنا هذا الأجر العظيم؟! وقد كان من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم حتى يُقال: لا يفطر، ويُفطِر حتى يُقال: لا يصوم.
ووجدنا من أنفسنا أننا نستطيع أن نُوتِر بإحدى عشرة ركعةً أو تسع أو سبع، ونستطيع الوقوف في ذلك دون تعب أو مشقَّة أو استطالة، ولقد كُنَّا في بقية الأيام نُوتِر بركعةٍ أو بثلاثٍ في أحسن الأحوال، فلماذا نحرم أنفسنا من هذا الأجر العظيم؟!
ووجدنا من أنفسنا أننا نستطيع أن نختم القرآن في شهر واحدٍ ختمةً، أو ختمتينِ، أو ثلاثًا، أو أكثر من ذلك في حين أننا في باقي الشهور قد لا نفتح المصحف إلا لمامًا، ولا نختم القرآن إلا في مدة أطول، فلماذا نحرم أنفسنا من هذا الأجر العظيم؟!
ووجدنا من أنفسنا في هذا الشهر أننا نستطيع البقاء والمكوث في المساجد ساعةً أو ساعتينِ وننتظر الصلاةَ بعد الصلاة، فلماذا نحرم أنفسنا من هذا الأجر العظيم؟
أيها المسلمون، لقد صدق مَنْ سَمَّى هذا الشهر بأنه شهر التغيير في الحياة، وهذا ما وجدناه فيه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ وإثمٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة وانتصف رمضان
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه حمدَ الشاكرين الذاكرين الصابرين الثابتين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.
ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: ما أسرعَ الأيّامَ والليالي، وما أشدَّ جريَانِ الأحوال! كنا بالأمس نتحدث عن استقبال شهرِ رمضان، فإذا بنَا في منتصف الطريق قد ذهبَ النصفُ أو كاد، وما هي إلا أيامٌ حتى نُفَاجَأ بهلال شوّال، وإقفال سوق المنافسة وخزائنِ الأعمال، واللقاءُ بين يدي الله تعالى يوم تُفْتَحُ خزائن الاجتهادِ وتُنْشَرُ دواوين العمل ..!!
أيها الإخوةُ المؤمنون: رمضانُ كلُّهُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعتقٌ من النار، ونصفُهُ الثاني خيرٌ من نصفه الأول بيقين، فمن جهةٍ جعل اللهُ فيه ليلةً خيرًا من ألف شهر من صادفها فقامها إيمانًا واحتسابًا أعتقه اللهُ من النار وغَفَرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه. ومن جهةٍ أخرى جعل الله –سبحانَهُ- للخِتام ما لم يجعلهُ لغيرِه، كما قال صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: “إنما الأعمال بالخواتيم”.
قال أهل العلم: يدلُّ الحديثُ على حقيقة عظيمة:
وهي: أنّ قيمة الاجتهاد في العمل والسعي إنما تظهر على الحقيقة في الختام، فالموفّقُ من وفّقه الله للإحسان في خاتمته كما وفّقه للإحسان في بدايته، ولذلكَ ثبتَ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها”.
فانظُر كيف كتب للأول النار مع صفاء البداية، والسببُ الفشلُ والانتكاسُ في النهاية، وكتبَ للآخَرِ الجنَّةَ مع الانتكاسِ في البداية لصفاءِ النهاية وحصول التوفيق فيها. فاحرصُوا معشر المؤمنين على جمالِ نهاية رمضان كما حرصتم على جمالِ بدايته تغنموا وتسلمُوا !
فهذا رمضانُ – معشر المؤمنين – قد انتصف، فمن منَّا حاسب نفسه فيه وانتصف؟!
حقٌّ على كلّ عاقلٍ أن يسألَ نفسَه: ماذا قدّمَ هذا العامَ وما الذي أخّر؟!
مثّل لنفسِكَ يا عبد الله: ها قد مضَى النصفُ من رمضانِك .. أي: من حياتِكَ على التشبيه .. لم يبقَ إلاّ نصفٌ وترحل، أيّ زاد ستقابل به مولاك..؟ وأيّ هدية ستحملها يداك ..؟! اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا !
كيف وجدت حالكَ مع القرآن في تلك الأيّام؟ المُجِدُّونَ في الختمة الثانية والثالثة أو الرابعة؛ فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع الصّلوات؟! الفُطَنَاءُ لم تفُتهُم صلاةٌ ولا نوافلُها، فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع الإحسانِ والصّدقات؟! الفطناءُ أكثروا الإطعامَ والصّدقات، وباركُوا للمساكينِ الأعطيات، فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع التراويح؟! المُجِدُّون ما تركُوا ركعةً واحدة، وها قد زال تعبُ القيام، وذهبت راحة الغفلة ! فماذا قدّمت لنفسِك؟!
هكذا هو الحال – معشر المؤمنين – في الحياة الدنيا..!، تذهبُ الأحزانُ والأتعابُ كما تذهبُ الشهوات واللذّات سواءً بسواء، ولكن لا تبقى إلا الحسناتُ والسيّئات!، قال الله تعالى يصفُ حالَ المتّقين وقد حطُّوا رحالَهم في الجنّة: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب) [فاطر 33-35].
وقال سبحانهُ يصفُ حالَ الغافلين وقد سيقَ بهم إلى النّار -نسأل الله السّلامة والعافية-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير) [فاطر: 37].
سبحان الله !! أوَ لم نعمّركم ما يتذكّرُ فيه من تذكّر؟!: هذا أربعين رمضان، وهذا خمسين، وهذا ستّين وهذا سبعين .. أو لا تكفي تلك الفُسحةُ من الأيّامُ والليالي والشهورِ والسّنين، أَوَ لَا يكفي الشيبُ بعد الشباب ليعلمَ العبدُ أنّ الحياةَ لهوٌ ولعب وأنّ ما عندَ الله خيرٌ للعباد؟!
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة انتصف رمضان والناس على أحوالهم
الحمد لله الذي جعل الصّيامَ جُنّة، أحمده سبحانه وأشكره على ما هدى ويسّر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله وسلام عليه وعلى آله وأصحابِه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أَمَّا بعد أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: أُذَكِّرُ -نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ- بِأَنَّ لِكُلِّ صَائِمٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، تُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ الْإِجَابَةِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ». فَاسْتَكْثِرُوا مِنَ الدَّعَوَاتِ الطَّيِّبَاتِ، لاسيما فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ، وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ عصر كُلِّ جُمُعَةٍ.. وَعِنْدَ الْإِفْطَارِ ادْعُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَأَلِحُّوا فِي الدُّعَاءِ لإِخْوَانِكُمُ من أَهْل السُّنَّةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ولا تنسوا جنودنا المرابطين اكْثِرُوا لَهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَلِعَدُوِّهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالزَّوَالِ. هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الصَّائِمِينَ كما أَمَرَكُمْ بذلك العَلِيمٍ الخبير: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].